عكس حشد الجموع في العواصم والأقاليم المصرية يوم 30 يونيو، ذات الدرس الذي لم تتوقف الثورة المصرية عن تأكيده منذ يناير 2011، ألا وهو أهمية سياسات الشارع وأهمية ”القادمين الجدد“ للسياسة كطرف حاسم في صراعات إنهاء السلطوية. هكذا جسدت حركة ”تمرد“ تنوع الأحداث، وكانت أكثر مهارةً في استخدام آليات التفاوض السياسي عن سابقتها ”كلنا خالد سعيد“. استطاع القادمون الجدد إلى المجال السياسي - والمتحررون نسبياً من أمراض المعارضة المصرية وحساباتها- من تسجيل هدف جديد عبر مبادرة جمع التوقيعات. وثبّتوا أقدامهم كطرف، لا بد من إدماجه في المجال السياسي الإقصائي والنخبوي الذي فرضه تحالف الجيش والإخوان طيلة عام على المسار الثوري.
مثلت الحشود، التي تراوحت التقديرات حول أعدادها بين 18 إلى 33 مليون متظاهراً، تحدياً عظيماً لمقولات الانتقال الديموقراطي والتي طالما أعلنت التحول النهائي من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية والاستفتاء على الدستور. أظهرت الأعداد الجانب النظري في هذه المقولات كما أعادتنا إلى أرض الواقع، حيث ستسود ولمرحلة قادمة، المراوحة بين المسار الاحتجاجي والمسار المؤسسي. فكانت التوقيعات المجموعة في الشوارع والأزقة ورقة ضغط حاسمة ضد "الشرعية الانتخابية"، التي تصور المحللون في الغرب أنها الخطوة الناجعة في الانتقال الديموقراطي. وجسد المدّ الشعبي إمكانيةً ملموسةً لإيجاد أدوات مكملة ومصححة للديموقراطية التمثيلية. ولمعالجة ضيق هامش المشاركة الشعبية اليومية التي تتيحها الديموقراطية التمثيلية في لحظات التحول.
لا يعني ذلك تراجع أو انزواء اللاعبين السياسيين التقليديين عن المشهد، فهم الوجه الآخر للعملة. كما أنهم استطاعوا بمؤسساتهم (الحزبية والائتلافية والأمنية) أن يكملوا الحشد، وأن يحفزوا القطاعات المهمومة بالاستقرار وبدء مرحلة البناء من التراص جنباً إلى جنب مع المتمردين باسم الشرعية الثورية. هكذا جاء الثلاثين من يونيو تعبيراً عن التقاء تكتيكي لثلاث قوى: اللاعبون السياسيون الجدد والمتوجسون من إخلاص وفاعلية كل الأطر الحاكمة والمعارضة، الكتلة الكسولة ذات الحسابات المادية والمتطلعة لنظام سياسي يسد الفراغ وينهي الفوضى ويعيد من جديد هيمنة السرديات الكبرى عن وحدة الوطن والاستقلال الوطني والدور المحوري للدولة، وأخيراً و ليس آخراً، النخبة السياسية بشقيها الليبرالي المدني والعسكري.
لم يكن هذا التلاقي الثلاثي انقلاباً عسكرياً - كما افتت بيوت الخبرة الغربية - بقدر ما عكس لحظة اعتراف وقبول متبادل طال انتظارها لخلخلة الوضع السياسي المشلول. من الواضح أيضاً أن هذا التلاقي لم يسفر بعد عن استئثار أي من هذه القوى بالصدارة. تجسد ذلك في الإخراج الهوليودي لبيان الخلع والذي ضم شيخ الأزهر وبابا الكنيسة القبطية وإيقونة الليبرالية السياسية المصرية، البرادعي، وممثلي حركة ”تمرد“. جاءوا جنباً إلى جنب، بل وتصدروا المشهد للتأكيد على اتساع الحركة وتنوعها السياسي، وللتأكيد على دور الجيش كمنفذ وليس كطرف في الصراع أو حتى حكم فوق الجميع مثل ما حدث في 11 فبراير.
هل كانت تلك لعبة تم إخراجها بعناية من قبل الجيش الذي يريد أن يسيطر دون أن يحكم؟ أم هل عكس هذا المشهد تغيراً في إستراتيجية الجيش وكيفية تعامله مع المدّ الثوري وتشرذم المعارضة السياسية وتحوله إلى احتواء جميع القوى المعارضة للإسلام السياسي عبر الإدماج و ليس الإقصاء؟ مازال الوقت مبكراً للإجابة قطعياً على هذه التساؤلات.
من الوارد أن يمتد الصراع ويتجدد بين هذا الثلاثي وبين قوى الإسلام السياسي في الأسابيع والشهور القادمة سواءً سياسياً أو ميدانياً. ومن الوارد أيضاً أن تحاول القوى المحافظة السيطرة على المجال السياسي والإسراع بخلق ترتيبات مؤسسية تمحو فترة حكم الإخوان طوال العام. وتخلق بيئة سياسية أكثر فعالية ولكن في نفس الوقت أكثر تمركزاً، بحيث تعود بكل القوى المستعبدة منذ استفتاء 19 مارس المشؤوم، إلى سيناريو بديل للتحالفات يحقق ذات الهدف: التضحية برأس النظام وليس بمحتواه وشبكاته وسلطويته. لكن تبقى سياسات الشارع وزخمه وفاعليته هي الضمانة الوحيدة للاستمرار في الضغط لولادة واقع جديد من هذا المخاض العسير، وإحتلال لمواقع المشاركة بعد عقود من السلطوية والإقصاء.
ليست هذه الموجة الثورية الأخيرة ولكنها تبدو أكثر كالدوامة السلطوية الأخيرة. دوامة تحاول اللعب على كل نقاط ضعف الأطراف الأخرى لاستدراجها على أرضيتها؛ دوامة تجذب المؤسسات الدينية إلى موقع تمثيل الدين وتغري المعارضة بالمشاركة حتى لو لم تمتلك رصيداً حقيقياً في الشارع مثل معسكر الإسلام السياسي، وتعد دون ضمانات واضحة القادمين الجدد بالمشاركة، فتلف الجميع في فلكها من جديد. تبدو المحاولة ناجحة حتى الآن، حيث يعترف الجميع بالحاجة للأطراف الأخرى. ولكن هل تتوقف الثورة المصرية حينئذ وتغرق في تفاصيل البناء؟ أم إن الاعتراف باللاعبين الجدد وبالمعارضة المدنية قيد التشكل، سيطرح عاجلاً أو أجلاً أرضيةً جديدةً للصدام مع هذه الشرعية التوافقية القديمة/ الجديدة، تستطيع من خلالها القوى البازغة أن تناضل من موقع أكثر تأثيراً؟